في (عود أزرق) لليلى الأحيدب.. نصوص نثرية تفيض بالحكمة والفلسفة

كتب: سعد عبدالله الغريبي في مجلة اليمامة | 7/9/2023

النثر الأدبي فن يكاد يندثر. فقد رسخ في أذهان جمهرة الكتاب أن الشعر يعلو ولا يعلى عليه. ولأن الشعر موهبة يمنحها الله لمن يشاء فقد حاول جمع من غير الشعراء تصنيف ما يكتبون بالشعر، ولو كان خاطرة أو قصة قصيرة أو كلاما منثورا لا رابط يربط بين أجزائه!.. ومن هنا أطرب لمن يكتب النثر ويقول لنا إنه نثر، فكم من نثر أجمل من الشعر، وكم من كُتّاب وجدنا في نثرهم متعة لم نجدها في الشعر. وأمامكم نثر نزار قباني وغازي القصيبي وجبران وغيرهم كثير.. ومالي أذهب بعيدا وأمامنا إصدار الأديبة ليلى الأحيدب الأخير (عود أزرق).


هذا الكتاب صدر عن دار رواشن للنشر بالإمارات العربية المتحدة في طبعته الأولى عام 2019 في سبعين صفحة، يضم سبعة وأربعين نصا أدبيا لا يخلو نص منها من حكمة وفلسفة ورأي.
تقول كاتبتنا في نص بعنوان (وصية):
“لا تضع قلبك في رسالة
ضع قبل القلب عتبة
لا تجمع شغفك في سلة واحدة
دعه ينمو كشجيرات الظل الهادئة
تعلم أيها العاشق أن تقرأ وِرد حبك مجزوءًا، لا دفعة واحدة..
وحين توازن المؤلفة بين النخلة والزهرة في نص بعنوان (نخلة)، فهي تضع في حسبانها أن لا أحد يفعل ذلك، فهي – بدون شك – لا تقصد النخلة ذاتها ولا الزهرة عينها، وإنما ترمي إلى أبعد من ذلك.. إلى كل من يخطئ عندما يقيس أمرا بأمر يظنه مثله، وهو لا يشبهه بحال. تقول:
“النخلة ليست وردة
لیست رمزًا عابرًا للغزل
لا تحمرُّ وتصفرُّ طوال الوقت مثلها
لا تذبلُ وتتفتت..
النخلة لا تُقطف مثلها..
لا تُحبس في مزهرية
لا توضع على طاولة
ولا تضطر لسماع هراء الساسة، وثرثرة الفارغين..
لا تُرمى مثلها في سلة المهملات بعد انتهاء الحفل
النخلة تزرعها في جوف قلبك وأنت مطمئن
فلا ورق يسقط، ولا رائحة تزعج، ولا شوك يجرح
كل ما فيها مُسالم
سعفُها.. جمَّارة قلبها.. رطبها.. وهيبتُها في المكان
تموت الوردة سريعًا
وتبقى النخلة واقفة بعد موتها
وجذورها تمسك قلب الأرض”.
وفي خاطرة يعنوان (وعد) تقول:
“أشياء كثيرة سأفعلها عندما نلتقي.. هكذا أقول لنفسي
وعندما نلتقى لا نفعل شيئًا
سوى أننا نلتقي”.
والحقيقة أن هذا ما نفعله جميعا، وفي كل مناسبة.. نضع أهدافا للقاء، وملخصا لما سنقول، ولما سنركز عليه، ونعد إجابات لأسئلة متوقعة من الطرف الآخر. لكن كل هذا التخطيط يتبخر في لحظة ما ولسبب ما..
وقد عبر كثير من شعراء الفصيح والعامي عن هذه اللحظة، فهذا أحمد رامي يقول من شعره الفصيح:
أزِنُ الحديث أقوله عند اللقـا فيضيع عند تقابل النظرات
وهاهو الشاعر نفسه يقول في شعره المغنى:
ولما أشوفك يروح مني الكلام وأنساه.
ومن نصها المعنون بـ (شجرة) تقول أديبتنا:
“إن أغرمت بالشجرة فلا تصادق الفأس، ولا تجامل الحطاب
ولا توهمها أن النار تضطرم دونما بأس
لا يُغرم بالشجرة من كان في سلام مع الفأس”.
والمغزى واضح، وهو أنك لا تستطيع أن تدعي محبة شخص في الوقت الذي تتخذ عدوه صديقا حميما لك. ولو أردنا أن نطبق هذه الحكمة على كثير من أمور حياتنا، وتعاملنا مع الآخرين – دولا وأفرادا – لما أمكننا العد.
ولا يسع متصفح هذا الكتيب أن يتجاوز هذا النص المعنون بـ (تعليل) الذي تقول فيه:
“يمكنك أن تقدم الرغيف للصائغ كي يحكم على جودته
لكنك لا تقدم ألماسة إلى خباز
ليس لأن الخباز في مرتبة أقل؛ بل لأن رغيف الخبز في مرتبة أعلى”.
وحين تتحدث الأستاذة ليلى عن المرآة، وتعامل الرجل معها تغلف ذلك بسخرية طريفة. نجد ذلك واضحا في نصها (جدل) حيث تقول:
“هناك ثلاث نهايات محتملة للحوار مع امرأة:
أن يكون الكلام نهرًا، وأنت فيه السمكة..
أو يكون بحرًا، وأنت فيه القِرش..
أو دهناء شاسعة، وأنت فيها السراب..
قبل أن تتخيل نهايتك جرب قدرتك على الصمت”.
وتعلل الكاتبة للصمت الذي يعترينا أحيانا، أو نلجأ إليه تعليلا لطيفا حين تقول:
“تعلَّمَ الكلامُ أن يبقى على الرف،
ليس لأنك لا تهتم
بل، لأن فراشة الكلام أحرقها مصباح الانتظار”.
وفي نص بعنوان (توحد) تعرض أديبتنا لمفارقة تعاملنا مع كل من الحزن والفرح. فنحن نحتمل الحزن ونستطيع التعامل معه ونسيانه أو تناسيه لا سيما حين نكون مع الأصدقاء، لكن أقل مقدار من الفرح حين يحل علينا ولا نجد من نقتسمه معه يتحول إلى حزن أكبر! تقول:
“يمكن للحزن أن يمكث منفردًا في روحك يتجمع كبركة آسنة
يتخثر.. يتحول لكتلة جامدة وصلبة
تزدردها مع أحاديثك، وضحكاتك، وابتساماتك المزيفة
تطوي أوجاعك في ركن مهمل من نهارك، وليلك..
تجابهه بفخر، وتمضي غير آبه بوحدة الوجع
يمكنك اجتياز ذلك الحزن مع فداحته
يمكن عبوره بقدمين تخصانك وحدك
لكنك تقع في الحزن الأكبر حين يحل بمسائك فرح صغير
ولا تجد من يقتسم معك هذا الرغيف الساخن”..
وأختم هذا العرض لكتاب الأستاذة ليلى الأحيدب بنص (ميثاق) الذي لا يحتاج إلى مزيد من الإيضاح:
“لا تعط وعدًا، وأنت لا تنوي أن يكون عهدًا
ولا تعط عهدًا، وأنت لا تقبل أن يكون قيدًا
وعندما يُقيِّدك حبل العهد
لا تصرخ: أنا في القيد أرسف”!!
أنت في البدء منحت الكلمة والكلمة قيد على صاحبها
شرفُهُ أن يتمَّها
أو يُطبق فمه على الصمت عند حضور السؤال”!